بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى والنور، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، فبين للناس طريق الحق والرشاد في الأحكام والاعتقاد، وما كتم صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحاه الله إليه، ولم يلتحق بالرفيق الأعلى حتى ترك الأمة على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك. فلا شيء من أصول الدين وفروعه، إلا وقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وعلمه أصحابه، ونقلوه، ولا ضلالة ولا شبهة إلا وفي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدحضها ويبطلها، عَلِمها من عَلِمها وجهلها من جهلها. وأعظم ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغه أمته، وأعظم ما كان يحرص أصحابه على تعلمه وتعليمه هو معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، وما يجب له على العباد من التوحيد والطاعة، ثم سائر أمور الغيب التي لا يدركها الناس بعقولهم، ولا يبلغونها بعلومهم. ولا سبيل إلى الحق فيها إلا من طريق الوحي. ولكن بعض المنتسبين للإسلام ضلوا السبيل، والتمسوا الحق من غير طريقه، فمنهم من لم يقنعه ما جاء في الكتاب والسنة، ومنهم من أخذ يبحث في غيرهما عما يعتقده في ربه، ومنهم من ابتلي بأهل الفلسفات القديمة والأديان المنقرضة، وأراد أن يجادلهم، ويدافع عن الإسلام، ولكن بغير منهج الكتاب والسنة، فأخذ يجادل بالعقل، ويدافع بالهوى، ويرد بعض الدين، ليدافع عن البعض الآخر، وينكر شيئاً ليثبت شيئاً. كما وجد أصحاب البدع والفرق في هذه الفلسفات وسيلة لدعم بدعهم وآرائهم.
  1. أثر الفلسفة اليونانية في علم الكلام

    كانت الفلسفة اليونانية الوثنية معروفة في الدولة الرومية والأقاليم الخاضعة لها، كـبلاد الشام ومصر، وقد فتح المسلمون هذه البلاد، ودخل أهلها في الإسلام، وبقي لدى بعضهم شيء من رواسبها عن جهل أو قصد.
    والفلسفات اليونانية اتجاهات مختلفة، يجمعها جميعاً القول على الله بغير علم، والخوض فيما لا تبلغه العقول، وقد كان فلاسفة اليونان، أمثال ( أفلاطون وأرسطو ) وثنيين، بعيدين عن هدي الأنبياء.
    وقد لقيت رواسب الفلسفة اليونانية رواجاً عند الجهال المبتدعة، مثل: الجعد بن درهم، أول من أظهر إنكار الصفات، وتلميذه: الجهم بن صفوان، مؤسس الجهمية، وواصل بن عطاء، مؤسس الاعتزال.
    ثم ظهرت المعتزلة، فتوسعوا في نقل الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني، وأعرضوا عن منهج الكتاب والسنة في عرض العقيدة والاستدلال عليها، والدفاع عنها، ووضعوا قواعد ما سمي (علم الكلام).
    ولما كان عصر المأمون أنشأ داراً للترجمة، واستورد كثيراً من كتب الفلسفة واعتنق هو بدعة القول بخلق القرآن، وقرب المعتزلة وغيرهم، فعظمت الفتنة، وانتشر الجدال في الدين.
    ومنذ ذلك الزمن أخذت بدعة الكلام تروج، وتتسرب إلى العلوم الأخرى، حتى أصبح في العصور الأخيرة يسمى علم التوحيد!
    وقد وقف له أهل السنة والجماعة بالمرصاد، وأعظم من نقضه ونسف أصوله وقواعده، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
    وفي عصرنا الحاضر يتعرض علم الكلام للانهيار نتيجة عاملين مهمين:
    الأول: انهيار الفلسفة التي قام عليها رأي الفلسفة اليونانية، حيث أثبت العلم الحديث بطلان أكثر ما قررته من أمور، وأصبح الغربيون أنفسهم لا يذكرون أفلاطون وأرسطو وأمثالهما، إلا على سبيل التاريخ.
    الثاني: الصحوة الإسلامية المعاصرة التي اتجهت في غالبها وجهة سلفية.
    ومع ذلك لا تزال بعض المؤسسات العلمية التقليدية في العالم الإسلامي مصرة على تدريسه، متمسكة بمنهجه.
  2. غرض عمل الكلام

    يعرّف أصحاب الكلام علم الكلام، بأنه: (علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية على الغير، بإيراد الحجج، ودفع الشبهات). وفي هذا بيان لغرضهم المزعوم، وهو إثبات العقائد والدفاع عنها بالعقل والرأي. ولهذا تعلموا فلسفة اليونان ومنطقهم، واستخدموا أساليبهم في المناظرة والجدل زاعمين أن ذلك هو الأسلوب الصحيح في رد شبهات الملاحدة، وإقناع الجاحدين. والحق أن بعضهم كان غرضه كذلك -بغض النظر عن صحة العمل والأسلوب- ولكن بعضهم كان هو نفسه ملحداً جامداً، لكنه تستر بهذا العلم، لإثارة الشبهات، وزعزعة العقيدة.
  3. حكم الكلام وأهله عند علماء السلف

    حكم الكلام وأهله عند علماء السلف :
    علم الكلام عند السلف علم بدعي، لا يجوز الخوض فيه إلا بغرض إبطاله، وليس لمجرد أنه علم جديد واصطلاح حادث، ولكن لمخالفته الصريحة لمنهج الكتاب والسنة في عرض العقيدة والدفاع عنها -كما سنوضح ذلك.
    ولهذا اتفق أئمة الإسلام، مثل: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن المبارك، والبخاري وغيرهم كثير؛ على هجر أهل الكلام ومقاطعتهم وتحذير الناس منهم. كما حكموا على أهل الكلام بحسب درجتهم منه، وهم قسمان:
    1- الجهمية والمتفلسفون الذين ينكرون جميع الأسماء والصفات وكثيراً من العقائد القطعية حكم عليهم السلف بالكفر والخروج من الملة.
    2- سائر المتكلمين دون ذلك حكم عليهم السلف بالضلال والابتداع والخروج عن السنة والصراط المستقيم.
  4. أسباب إنكار السلف على أهل الكلام ومنهجهم

    1- أن العقيدة إنما تثبت بالوحي (الكتاب والسنة) لا بعقول المخلوقين وآرائهم، ودين الإسلام إنما يقوم على الاتباع والاستسلام. فالمسلم يصدق ويوقن بخبر بمجرد أن يثبت لديه أن هذا من عند الله دون حاجة إلى جدل واقتناع عقلي.
    والكافر -غالباً- هو جاحد معاند مهما جودل ورأى من البراهين. ((وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ))[الحجر:14-15].
    ولهذا لم يكن الجدل هو وسيلة الدعوة -كما يظن المتكلمون- وإنما هو وسيلة لإقامة الحجة على المعاند.
    2- إن الوحي مصدر معلوم معصوم، أما العقول فهي مع جهلها وقصورها عن معرفة حقائق الغيب مختلفة متناقضة، ولهذا لا يكاد الفلاسفة والمتكلمون يتفقون على شيء إلا ما هو متفق عليه بين جميع بني آدم الذين لا يعرفون فلسفة ولا كلاماً.
    وهذا العلاف وصاحبه النظام وهما أول من ألف في علم الكلام وهما من فرقة واحدة كما سبق- يناقض كل منهما الآخر ويكفره.
    ولهذا لما أراد الإمام أحمد أن يرد على جميع الفرق دفعة واحدة وأن يرد الأمة إلى المصدر الصحيح الوحيد ألف ( المسند ) وجمع فيه قرابة أربعين ألف حديث.
    3- أن الكتاب والسنة يشتملان على الحجج والبراهين التي ليس بعدها حجة ولا برهان، وأكثر العقول قوة وكمالاً هي أكثرها فهماً لتلك الحجج والبراهين، واستنباطاً منها، وليس دين الإسلام مجرد أخبار مروية لا برهان فيها يتناقلها الناس على سبيل التقليد كما يظن المتكلمون!
    وقد ناظر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصناف الكفار -من يهود ونصارى ومشركين- بالقرآن والسنة، فقهروهم وأفحموهم، وسار على ذلك علماء أهل السنة في سائر العصور، فأقاموا الحجة وقطعوا الخصم دون استعانة بمصدر آخر غير الكتاب والسنة وأقوال السلف .
  5. أثر علم الكلام على الأمة الإسلامية

    كان لعلم الكلام -وما يزال- آثاره الخطيرة على الأمة الإسلامية، ومن ذلك: 1- إخضاع عالم الغيب لعالم الشهادة: فالمتكلمون يتحدثون عن الله تعالى واليوم الآخر، وسائر الغيبيات مستخدمين المصطلحات والمعايير التي وضعوها للأمور المشاهدة مثل: (الجوهر، العرض، الكمية، الكيفية، الحدوث، التغير). 2- إثارة الشكوك والريب في أمور قطعية يجب الإيمان والتسليم بها بلا اعتراض ولا مناقشة، مثل: قضية إثبات وجود الله تعالى، وكون العالم مخلوقاً. 3- افتعال التعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح، مثل: تكذيب الأحاديث المتفق على صحتها بدعوى مخالفتها للعقل، وأحياناً يذكرون أحاديث موضوعة ويقولون: هذا مما ورد به السمع وإن خالف العقل. 4- تحويل الفائدة الإيمانية إلى قضايا عقلية جافة وجدل فارغ طويل لا أثر له في الإيمان ولا الأخلاق. 5- فتح الباب للملاحدة والحاقدين للطعن في الإسلام، وذلك لأن المتكلمين يزعمون أن الإسلام هو ما قرروه وأثبتوه من القضايا. فإذا رأى الملاحدة ضعفها وخطأها واستطاعوا نقدها توجه هذا الخطأ والنقد إلى الإسلام نفسه- عياذاً بالله. 6- تفريق الأمة وفتح باب الخصومة بين المسلمين في أمور ما أنزل الله بها من سلطان، ولا تعبد الناس بمعرفتها. فكل طائفة من المتكلمين تكفر الأخرى، بل ربما كفر التلميذ شيخه وكفر الابن أباه.